7. تطهير طائفي؟
على الرغم من استسهال وكثرة استخدامه في السياق السوري، إلا أن لتعبير “التطهير العرقي” أو “التطهير الطائفي” تعريفاً قانونياً دقيقاً. إذ إنه يشير عادة إلى “سياسة متعمدة تمارسها جماعة عرقية أو دينية لتهجير السكان المدنيين لجماعة عرقية أو دينية أخرى من مناطق جغرافية معينة باستخدام العنف أو الترهيب.”1
بتعبير آخر، يشير التطهير العرقي أو الطائفي إلى التهجير القسري الجماعي لسكان مدنيين من المنطقة التي كانوا يسكنونها، باستخدام أساليب قسرية وغير مشروعة، بهدف تغيير الطابع الإثني أو الطائفي للمنطقة المعنية. وعادة ما تُدمّر أو تهدم منازل المهجّرين، حتى لا يستطيعوا العودة إليها، ويستوطن في مكانهم أناس من عرق أو طائفة أخرى معادية.
بالإضافة إلى جرائم أخرى، يعتبر ذلك تمييزاً على أساس العرق أو الدين، الذي يُعتبر في النزاعات المسلحة، كما هي الحال في سوريا، جريمة حرب، كما قد يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية حسب الظروف (لن يرقى غالباً إلى إبادة جماعية).
من نافل القول إن الشيعية والعلوية والسنّية ليست أعراقاً أو إثنيات. لكنها عقائد دينية تحدّد جماعات بشرية معينة ترتبط بهذه العقائد. لذا فإن تعبير “التطهير الطائفي” أكثر دقة لوصف ما يُزعم أنه يحدث في مناطق معينة في سوريا.
يكفي أن تكون الجماعة التي ارتُكبت بحقها جريمة تطهير عرقي أو طائفي معرّفة كذلك (أي كإثنية أو طائفة) إما على أساس معيار موضوعيّ ما أو في ذهن المتهم بالجريمة. لذا، بالإضافة للأركان الذاتية والموضوعية التي يتطلبها إثبات جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، والتي يناقشها الفصل الثاني بالتفصيل، يجب أن تكون جريمة التطهير العرقي أو الطائفي قد ارتُكبت بـ “نيّة تمييزية” حتى تُعتبر كذلك، وهو ما يميّزها عن جرائم الحرب الأخرى.
غالباً ما كان العنف والدمار الذي ارتكبته قوات وميليشيات النظامين السوري والإيراني بحق المدنيين والمواقع المدنية عشوائياً إلى حدّ كبير، خاصة في المدن الكبرى. لكن هناك أيضاً قرائن ومؤشرات على أن بعضه، على الأقل في مناطق معينة، كان طائفيّ الطابع. من أشهر الأمثلة على ذلك مجازر الحولة والبيضا وبانياس.2 وهناك عدد من الأسباب لذلك.
بعد اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011 بوقت قصير، مع تزايد عدد الجنود المنشقين عن الجيش النظامي وانضمامهم للجيش السوري الحرّ، لجأ النظامان السوري والإيراني إلى ميليشيات طائفية بطبيعتها إلى حدّ كبير، بعضها قديم وبعضها جديد، لملء هذا الفراغ. وهكذا، حتى لو كان الهدف في البداية سياسياً (قمع تظاهرات شعبية حاشدة)، فإن الخطاب الذي استُخدم لتعبئة وتجنيد عناصر هذه الميليشيات في سوريا ولبنان والعراق وإيران كان طائفياً (حماية العلويين والشيعة من متطرفين سنّة وما إلى ذلك).
ليس من المستغرب، والحال هذه، أن العديد من الجرائم التي ارتكبتها هذه الميليشيات كانت بدافع طائفي – على الأقل في أذهان مرتكبيها – كما يدلّ على ذلك عدد لا يُحصى من الفيديوهات والتعليقات التي نشرها عناصر هذه الميليشيات على مواقع التواصل الاجتماعي. بتعبير أحد المراقبين، “على عكس الجيش السوري، الذي يزعم أنه يخوض حرباً وطنية ضد مصالح أجنبية، لا تخفي هذه الميليشيات التي تقاتل بالوكالة هدفها الحقيقي: تطهير الممر الحيوي والاستراتيجي في غرب البلاد من سكانه السوريين السنة.”3
صحيح أن “الشبّيحة” ليسوا جميعاً علويين، كما تصوّرهم غالباً تقارير وسائل الإعلام الغربية وبعض وسائل إعلام المعارضة السورية. إذ يضمون في صفوفهم كذلك العديد من العناصر من أصول سنّية ودرزية وغيرها حسب المنطقة. في حلب، على سبيل المثال، ينتمي كثير من عناصر الشبيحة إلى بضع عائلات محلية، أسوأها صيتاً عائلة البرّي، المعروفة بتهريب السلاح والمخدرات وبعلاقاتها مع النظام. وفي حي ركن الدين في دمشق، ينتمي العديد من الشبيحة إلى عائلات كردية-شامية؛ في دير الزور إلى عائلات وقبائل عربية سنّية، وهلمّجرّا.4 لكن في بعض المناطق، مثل حمص وجنوب دمشق، كانت ولا تزال أغلب الميليشيات التي تقاتل إلى جانب النظام أو بالنيابة عنه ذات هوية علوية أو شيعية إلى حد كبير.
في هذه المناطق بالتحديد وقع ويقع كثير من الجرائم التي يركز عليها هذا التقرير. وسبب ذلك أنه، بعد معركة القصير في ربيع 2013، حدثت نقلة ملحوظة في استراتيجية النظام الإيراني العسكرية في سوريا: التنازل عن أو فقدان الاهتمام بإمكانية استعادة السيطرة على الأجزاء الشمالية والشرقية من البلاد، والتي كان الثوّار قد قد سيطروا عليها الآن. سيتم التركيز بدلاً عن ذلك من الآن فصاعداً على الدفاع عن المناطق الخاضعة لسيطرة النظامين السوري والإيراني في دمشق وما حولها، حمص وما حولها (والتي تربط دمشق بالساحل) ومنطقة القلمون (التي ترتبط بين المنطقتين السابقتين وتربطهما بلبنان).5
ولتحقيق ذلك، أسند الدور القيادي في المعارك الاستراتيجية في هذه المناطق إلى الميليشيات الطائفية آنفة الذكر (حزب الله والميليشيات الشيعية الأخرى التي يدعمها ويتحكم بها النظام الإيراني)، لأنها كانت تُعتبر أكثر ولاء، أكثر تنظيماً، ويمكن الاعتماد عليها أكثر من الجيش النظامي السوري. في الوقت نفسه، كان لا بد من خلق وتأمين مناطق أو ممرات موالية في هذه المناطق، و”أسهل” الطرق لفعل ذلك، كما يبدو، كان تغيير التركيبة الديموغرافية لهذه المناطق، أي إفراغها من جميع “العناصر غير المرغوب فيها”، والذين صدف أن معظمهم من أصول سنّية، واستبدالهم بسكان مواليين من أصول علوية وشيعية، مقاتلين ومدنيين، سوريين وأجانب على حد سواء. ويبدو أن الجرائم التي يناقشها هذا التقرير (أي تدمير ممتلكات المدنيين والاستيلاء عليها وتهجير ونقل السكان المدنيين) جزء من هذه السياسة.
يبدو أن الهدف البعيد من هذا المخطط، الذي قد يرقى إلى تطهير طائفي وإلى احتلال أجنبي، هو تأمين ممر دمشق-حمص-الساحل-لبنان من أجل تأمين استمرارية جغرافية وديموغرافية للمناطق الخاضعة لسيطرة النظام من جهة، ولتأمين استمرار تدفق السلاح الإيراني لحزب الله في لبنان من جهة أخرى، في الوقت الذي تقطع فيه خطوط إمداد الثوار القادمة من أو عبر شرق لبنان.
قد تكون هناك أهداف أخرى جيواستراتيجية وطويلة الأمد، مثل بناء وتأمين أنبوب غاز من جنوب بارس في إيران، وهو أكبر حقل غاز في العالم، عبر العراق وسوريا إلى المتوسط، مع خط محتمل إلى لبنان.6 لكن التحقق من مخططات كهذه يحتاج إلى مزيد من البحث ومزيد من الأدلة.
من سخرية الأقدار أن النظامين السوري والإيراني ملأا الدنيا صخباً منذ بداية الثورة بمزاعم عن تخطيط المتطرفين السنّة لتطهير سوريا من العلويين والشيعة.7 صحيح أن بعض المجموعات الإسلامية السنّية المتشددة قد ارتكبت بالفعل انتهاكات لحقوق الإنسان، وربما جرائم حرب، بدوافع طائفية، كما وثّقت ذلك “أمنستي” و”هيومان رايتس ووتش” وغيرها من المنظمات. لكن العديد من هذه الجرائم، كما يبدو، جاء كردود فعل على السياسات والممارسات الطائفية التي انتهجها النظامان السوري والإيراني لخدمة مصالحهما السياسية.8
ملاحظات ومراجع:
1 انظر هنا.
2 للمزيد عن هذه المجازر، انظر هنا. انظر أيضاً هذا التقرير.
3 انظر هنا.
4 انظر مثلاً، ياسين الحاج صالح، “في الشبّيحة والتشْبيح ودولتهما“، كلمن 5، شتاء 2012.
5 للمزيد عن هذا الموضوع، انظر هنا.
7 انظر هذا المثال النموذجي.
8 انظر مثلاً هذا التقرير وهذا التقرير.