6. تهجير قسري ونقل سكان
هناك جانبان للتغيير الديموغرافي الذي يحدث في سوريا: التهجير القسري لملايين السوريين، الذين صدف أن معظمهم من أصول سُنّية، واستجلاب وتوطين أجانب من أصول شيعية.
يقدّر المراقبون أن أكثر من نصف سكان سوريا قد نزحوا من بيوتهم بسبب الحرب المستمرة، سواء داخل سوريا أم إلى الخارج. وهذه المأساة موثّقة بشكل جيد من قبل كثير من المنظمات السورية والدولية، بما فيها وكالات الأمم المتحدة. لذا لا داعي لتكرار التفاصيل هنا. نكتفي بالقول إن التهجير المنهجي وواسع النطاق لملايين المدنيين غالباً ما تمّ باستخدام أساليب قسرية (العنف أو الخوف من العنف الذي تمارسه قوات وميليشيات النظام بشكل أساسي) وإن كثيرين ممن نزحوا أو هُجّروا لم يعد لديهم مكان يعودون إليه لأن منازلهم قد دُمّرت أو هُدّمت أو تم الاستيلاء عليها و”إعادة إعمارها”، غالباً بشكل متعسف وغير مشروع. علاوة على ذلك، في العديد من هذه الحالات، لم يكن التهجير مبرراً بأسباب أو أهداف عسكرية واضحة ومحددة أو لحماية أمن المهجّرين. بناء على ذلك فإن العديد من هذه الحالات قد يرقى إلى جرائم حرب، أو حتى إلى جرائم ضد الإنسانية في بعض الحالات.
أما الجانب الآخر (أي استجلاب وتوطين شيعة أجانب في سوريا) فهي مسألة أكثر إثارة للجدل والتحقق منها أكثر صعوبة.
لم يعد سرّاً أن التشيّع في سوريا آخذ في الازدياد منذ سنوات. إذ أن برنامجاً مدروساً لنشر النسخة الإيرانية من الإسلام الشيعي، والذي كان قد بدأ في عهد حافظ الأسد واستمر بوتيرة أسرع خلال سنوات حكم بشار الأسد،1 اتخذ منعطفات خطيرة خلال الحرب الحالية. فقد باتت المواكب الشيعية الضخمة خلال أيام عاشوراء، ظهور مساجد ومقامات وحوزات شيعية جديدة، انتشار كتب ورموز شيعية على بسطات الكتب… باتت كلها مشاهد مألوفة في كثير من المناطق السنّية تقليداً في دمشق وغيرها من المدن السورية. ومن الجليّ أن الدولة تتساهل، لا بل تشجّع، هذه المظاهر.
على مستوى سياسة الدولة، أصدر بشار الأسد عام 2014 مرسوماً يسمح بتعليم المذهب الشيعيّ في المدارس السورية إلى جانب المذهب السنّي، إضافة |إلى افتتاح أول مدرسة شيعية عامة في البلد في أيلول/سبتمبر 2014 (مدرسة الرسول الأعظم على أطراف مدينة جبلة).2 وكانت حوالي 40 مدرسة شيعية خاصة أصغر منها قد افتتحت في دمشق في السنوات السابقة، لا سيما في مناطق شارع الأمين، باب مصلى وشارع الحمرا. كما انتشرت بكثرة الحسينيات الشيعية في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في دمشق وغيرها.3
مع الأسف، غالباً ما تكون التغطية الإعلامية لظواهر كهذه طائفية الطابع، إذ تخلط الدينيّ والثقافيّ مع السياسيّ. الشيعيّة أو التشيّع ليسا جريمة بحد ذاتهما. فحرية التديّن والاعتقاد، والتي تشمل التعليم الديني، حق أساسي من حقوق الإنسان. القضية الوحيدة التي ينبغي أن تشغلنا في هذا الصدد هي ما إذا كانت هناك أدلة كافية لاتهام النظامين السوري والإيراني بتغيير، أو محاولة تغيير، التركبية الديموغرافية لمناطق معينة من سوريا باستخدام وسائل غير مشروعة.
في هذا الصدد، نُشرت تقارير عديدة – غالباً دون أدلة وتفاصيل داعمة – عن قيام وزارة الأوقاف السورية باستملاك أراض وعقارات تحيط بمزارات وأضرحة تاريخية سنّية وبيعها أو منحها، مع الأضرحة والمزارات، لإيرانيين يقومون بترميمها وبنائها ثم يزعمون أنها مزارات شيعية مقدّسة.4 نحتاج إلى المزيد من الأدلة الموثوقة والتفاصيل – كمستندات طابو للمناطق المعنية مثلاً – للتأكد من صحة وحجم هذه الادعاءات.
كما انتشرت تقارير وشائعات عن قيام السلطات السورية بمنح الجنسية السورية لآلاف الشيعة الأجانب. وربما كان أشهر الأمثلة على مثل هذه التقارير تقرير من عام 2013 يزعم قيام بشار الأسد بفتح الباب أمام تجنيس 40 ألف شيعي في محافظة السويداء من أتباع حزب الله، بفرعيه اللبناني والعراقي، بعضهم يقاتل في سوريا إلى جانب قوات النظام، بالإضافة إلى مدنيين من الطائفة الشيعية. وتضيف التقارير أن أولئك الذين يُمنحون الجنسية السورية “سوف يُمنحون ألقاب عائلات درزية”، وأن السلطات قد بدأت بتنفيذ المشروع بالفعل “منذ حوالي الأسبوع.” ورداً على ذلك، أصدر عدد من النشطاء من السويداء في 15 تموز/يوليو 2013 بياناً أدانوا فيه المشروع، واصفين إياه بـ “اللعب بديموغرافيا المنطقة” التي تسكنها غالبية درزية.5
وانتشرت هذه المزاعم على نطاق واسع بعد ظهور مقالتين متشابهتين تقريباً بتاريخ 13 تموز/يوليو 2013 في صحيفتي “الشرق الأوسط” السعودية و”القبس” الكويتية.6 لم يتمكن مؤلفو هذا التقرير من التحقق من هذه المزاعم بشكل مستقل، أو من مصدر رقم الـ 40 ألفاً هذا. حتى لو صحّت الادعاءات، من المرجح أن الرقم مبالغ فيه. ففي الفترة التي ظهرت فيها هذه التقارير، لم يكن في السويداء سوى 2,400 مقاتلاً شيعياً، يقيمون كلهم في المدينة الرياضية في المدينة.7
ليس سرّاً أن النظامين السوري والإيراني قد استقدما آلاف المقاتلين الشيعة من لبنان، العراق، إيران، أفغانستان وغيرها ليقاتلوا إلى جانب قوات الأسد، وحتى بالنيابة عنها، بذريعة حماية المقدسات والمزارات الشيعية في سوريا.8 وينحدر كثير من هؤلاء من عائلات أفغانية مهاجرة وفقيرة هربت من بلدها إلى إيران إبان الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في الثمانينات.
من المعقول أن بعض هؤلاء المقاتلين قد جلبوا منذ قدومهم عائلاتهم واستقروا في المناطق التي تحتلها هذه الميليشيات. بالفعل، هناك بعض التقارير عن استيطان عائلات شيعية أجنبية في أحياء معينة في دمشق وحمص، مثل السيدة زينب، داريا، القصير وغيرها.9
لكن من المهم الانتباه إلى أن عمليات نقل السكان المحرمة دولياً تخصّ المدنيين وليس المقاتلين، كما يشرح الفصل الثاني بالتفصيل. إذ تحظر المادة 8(ب)(8) من اتفاقية روما “قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها.” بالمثل، تنصّ المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على أنه “لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحّل أو تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها.”
علاوة على ذلك، أغلب المقاتلين الشيعة المعنيين هنا ليسوا مواطنين إيرانيين، بل هم عراقيون أو لبنانيون أو أفغان. يعني ذلك أنه، في أغلب هذه الحالات، لا يمكن نظرياً اتهام إيران بنقل سكانها المدنيين إلى سوريا. لكن يمكن المجادلة أن السلطات الإيرانية، ولا سيما سباه باسداران، تمارس “سلطة أمر واقع” على هؤلاء المقاتلين وعائلاتهم، كما يبيّن تقرير سابق لـ (نامه شام) بتفصيل أكبر.10
على أية حال، هناك حاجة إلى مزيد من الأدلة لتحديد حجم خطط نقل السكان المزعومة هذه. لكن هناك ما يكفي من المؤشرات ورؤوس الخيوط لفتح تحقيق دولي من قبل الجهات المختصة في هذه القضية الخطيرة.
من الجدير بالذكر أن قانون الجنسية السوري 11 ينصّ على أن رئيس الجمهورية يتمتع بسلطة منح الجنسية السورية لأجانب، لكن يجب أن يتم ذلك على أساس فردي، أي كل حالة على حدة، وعلى مقدّم الطلب أن يكون مقيماً في البلد لخمس سنوات متتالية على الأقل.12 لذا فالمشاريع المزعومة هذه القاضية بتجنيس الشيعة الأجانب بأعداد كبيرة وبشكل جماعي ستكون غير قانونية، إن صحّت، وفقاً لقانون الجنسية السوري، خاصة وأن أغلب المقاتلين الشيعة المتواجدين في سوريا اليوم قد قدموا إليها في السنوات اﻷربع الأخيرة (باستثناء عدد صغير من العراقيين والإيرانيين الذين كانوا يعيشون في سوريا قبل اندلاع الثورة في آذار/مارس 2011).
علاوة على ذلك، على مقدّم طلب الجنسية أن يتمتع بـ “حسن السلوك” وأن لا يكون عليه أيّ حكم (قضائي). بناء على ذلك، يمكن تجريد المقاتلين الأجانب من الجنسية السورية الممنوحة لهم على هذا الأساس في المستقبل، إذا أمكن إثبات ارتكابهم لأية جرائم أو أعمال غير مشروعة في سوريا من قبل محكمة أو سلطة مختصة.
تنص المادة 20 من القانون المذكور أيضاً على أن أي شخص يحصل على الجنسية السورية بطرق غير مشروعة، كالتزوير أو الغش، يُجرّد من جنسيته بحكم قضائي. وسينطبق ذلك على بعض الحالات المزعومة لتزوير الهويات والوثائق، كما في حمص ودمشق، لكن هناك حاجة إلى المزيد من الأدلة لإثبات حصول التزوير.
أخيراً، يمكن أيضاً تجريد المجنّسين من جنسيتهم إذا كان الشخص المعني يخدم خدمة عسكرية في بلد آخر دون إذن مسبق من وزارة الدفاع السورية. ولا شك أن هذا الأمر سينطبق على العديد من المقاتلين الأجانب في سوريا، خاصة الإيرانيين.
ملاحظات ومراجع:
1 أفضل الدراسات عن التشيع في سوريا قبل 2011 هي، حسب علمنا، “عملية التشيع في سوريا 1985 – 2006، دراسة اجتماعية – إحصائية”، المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سوريا، 2006؛ خالد سنداوي، “التشيع في سوريا“، معهد هدسون، 2009؛ “البعث الشيعي في سوريا – 1919 -2007“، المعهد الدولي للدراسات السورية، 2009.
2 انظر هنا (بالفارسية).
3 انظر مثلاً هذا الفيديو الذي يظهر حسينية شيعية داخل الجامع الأموي في دمشق.
4 انظر هذا المثال النموذجي.
5 انظر هنا.
6 “أنباء عن استعداد الأسد لتجنيس آلاف الشيعة بهدف إحداث تغييرات ديموغرافية بالسويداء“، الشرق الأوسط، 13 تموز/يوليو 2013؛ “الأسد يبدأ الحرب الديموغرافية ويمنح آلاف الشيعة الجنسية“، القبس، 13 تموز/يوليو 2013، ص.41.
7 السابق.
8 للمزيد عن هذا الموضوع، انظر هنا.
9 انظر مثلاً هذا التقرير وهذا التقرير.
10 انظر هنا.
11 المرسوم التشريعي رقم 276 لعام 1969.
12 انظر هنا.