3. “تنظيم عمراني”
في أيلول/سبتمبر 2012، أصدر الرئيس السوري بشار الأسد مرسوماً يقضي بإحداث منطقتين تنظيميتين في محافظة دمشق كجزء من “مصور عام لمدينة دمشق لتطوير مناطق المخالفات والسكن العشوائي.”1 وتقع المنطقة الأولى جنوب شرق المزة وتشمل المنطقتين العقاريتين المزة وكفرسوسة، بينما تقع المنطقة الثانية إلى الجنوب من طريق المتحلّق الجنوبي وتشمل المناطق العقارية المزة، كفرسوسة، قنوات البساتين، داريّا والقدم.
ومنع المرسوم التشريعي رقم 66 بيع وشراء أية عقارات داخل هاتين المنطقتين التنظيميتين أو منح تراخيص بناء جديدة. كما طلب من مجلس محافظة دمشق إعداد جدول بأسماء جميع مالكي العقارات في هاتين المنطقتين خلال شهر واحد، ودعا مالكي العقارات إلى التصريح علناً بحقوقهم في عقاراتهم ومنحهم “خيار” بيع أسهمهم في هذه العقارات. كما أن قرارات “لجنة الخبراء” التي أنشأها المرسوم ستكون “قطعية وغير قابلة للطعن أو المراجعة.”
في تعليقه على المرسوم ، قال وزير الإدارة المحلية ابراهيم غلونجي إن المرسوم 66 جاء “استجابة لأولويات عمل الحكومة ورؤيتها لتجاوز تداعيات الأزمة التي تمرّ بها سورية، وكخطوة أولى من خطوات إعادة إعمار مناطق المخالفات والسكن العشوائي، وخاصة التي تم استهدافها من قبل المجموعات الإرهابية المسلحة، وذلك بتنظيم وبناء تلك المناطق لتصبح مناطق تنموية ذات صبغة عمرانية متميزة وذات كفاءة عالية…”2
من المعروف أن داريا، المعضمية وبلدات أخرى في هذا الجزء من ريف دمشق كانت حواضن ساخنة للثورة، ومن ثم مناطق تسيطر عليها المعارضة المسلحة. وكما حدث في الكثير من المناطق السورية الأخرى، تحولت المظاهرات السلمية في البداية إلى معارضة مسلحة، واتخذ مقاتلو الجيش الحرّ قواعد لهم في هذه المنطقة واستخدموها للهجوم على مراكز النظام، بما في ذلك مطار مزة العسكري والحواجز القريبة منه. في آب/أغسطس 2012، شنّت قوات النظام حملة كبيرة على داريا والمعضمية، وكانت أكبر وأعنف حملة حتى ذلك الوقت. تلتها حملة أخرى في كانون الأول/ديسمبر 2012، بعد هجوم قوات المعارضة على حاجز للنظام يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر.
إذن، من الواضح أن التدمير والهدم في المزة والمناطق المحيطة بها كانت له علاقة بالنزاع المسلح. بالفعل، حين سئل حسين مخلوف، محافظ ريف دمشق وأحد أقرباء الأسد، من قبل صحيفة “وول ستريت جورنال” عن دوافع عمليات الهدم، قال إنها كانت “ضرورية لإخراج الإرهابيين.”3
تُظهر صور الأقمار الصناعية التي استخدمتها “هيومان رايتس ووتش” في تقريرها هدم ما جملته 41.6 هكتاراً من الأبنية السكنية في محيط مطار المزة العسكري، أغلبها هُدّم بين كانون الأول/ديسمبر 2012 وتموز/يوليو 2013. وهو هدم واسع النطاق ومنهجي بما يكفي لاعتباره تدميراً غير مشروع لممتلكات المدنيين، الذي يُعتبر جريمة حرب. كما أنه كان جزءاً من سياسة رسمية للدولة، كما يدلّ على ذلك المرسوم الرئاسي.
لكن القول إن عمليات الهدم في المزة قد تكون مبررة عسكرياً بسبب هجمات المعارضة المسلحة على أهداف النظام العسكرية، حتى وإن أقررنا بأن الهدم كان مفرطاً وغير متناسب مع أهدافه، يُغفل جزءاً آخر هاماً من القصة، ألا وهو وجود خطط قديمة مسبقة لـ “إعادة إعمار” المنطقة بأسرها قبل بدء النزاع الحالي بوقت طويل. ويبدو أن السفارة الإيرانية في دمشق، والتي تقع على أوتوستراد المزة داخل المنطقة التنظيمية التي حددها المرسوم 66، تلعب دوراً محورياً في هذا المخطط.
من المعروف أن الرئيس السوري السابق حافظ الأسد كان قد أمر مجلس محافظة دمشق عام 1991 بإلغاء القانون رقم 60 الخاص بسبعة مقاسم عقارية في المزة، والتي كانت المحافظة قد استملكتها. وكان أن تم نقل ملكية هذه المقاسم إلى عائلة الأسد، لتمنحها هذه في وقت لاحق للسفارة الإيرانية في دمشق. وهناك بُنيت السفارة الإيرانية الجديدة.
تقول مصادر سورية معارضة إن العملية تمت آنذاك تحت إشراف رئيس قسم الترخيص في المحافظة بسام خيربيك، ابن أخ محمد ناصيف خيربيك،4 الذي كان يشغل منصب نائب رئيس المخابرات العامة وعُيّن فيما بعد نائباً للرئيس بشار الأسد للشؤون الأمنية. ومن المعروف أن محمد ناصيف كان الوسيط الأساسي بين النظامين السوري والإيراني وضابط الارتباط مع العديد من الميليشيات التي تدعمها إيران.5 إذ تصفه أحد البرقيات الدبلوماسية الأميركية المسرّبة بـ “ضابط ارتباط سوريا مع إيران.”6
وتضيف المصادر نفسها إن مهندساً يدعى أحمد الدالي، رئيس قسم الآثار في المحافظة، أوكلت له فيما بعد مهمة شراء العقارات المحيطة بمبنى السفارة الإيرانية، خلف مشفى الرازي، لحساب السفارة (المزيد عن هذه النقطة أدناه).
تبدو عمليات الهدم في المزة استمراراً لمخطط قديم لخلق “منطقة نفوذ إيراني” في جنوب دمشق شبيهة بالضاحية الجنوبية لبيروت التي تخضع لسيطرة حزب الله اللبناني. كل ما في الأمر أن المخطط سُرّع بسبب الحرب أو تحت غطائها.
تجدر الملاحظة أن طريق “المتحلق الجنوبي” السريع، الذي يصل جنوب دمشق بلبنان، يمر من منتصف المنطقة التنظيمية التي حددها المرسوم 66. ومن المعروف أن جميع شحنات الأسلحة الإيرانية إلى حزب الله تمر الآن برّاً عبر سوريا، وذلك منذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 لعام 2006، الذي أوقف كل شحنات الأسلحة إلى لبنان عير الموانئ اللبنانية.
تكررت قصة المزة نفسها، إلى هذا الحد أو ذاك، في مناطق استراتيجية أخرى من سوريا، مثل حمص. ففي حزيران/يونيو 2014، قام محافظ حمص، طلال البرازي، بمناقشة مقترح مشروع مع أعضاء مجلس مدينة حمص يقضي بـ “إعادة إعمار أحياء بابا عمرو والسلطانية وجوبر.”7 وأشار المحافظ خلال “الجلسة الاستثنائية” إلى نيّة المجلس في إلغاء المرسوم رقم 26 الخاص بمنطقة بابا عمرو “وتشميله بالمرسوم 66.” وتقول التقارير الإعلامية إن صاحب المشروع المقترح هو د. مزاحم زين الدين، عميد كلية العمارة.8 وكانت بابا عمرو قد شهدت بعضاً من أشرس وأعنف المعارك وأكثر الحصارات دموية من قبل قوات النظام وحزب الله خلال عامي 2012 و2013. 9
بالإضافة للهدم المتعسّف وواسع النطاق لممتلكات المدنيين، ترقى مخططات التنظيم العمراني هذه إلى استيلاء غير مشروع على ممتلكات المدنيين لا تبرره الضرورات العسكرية، حتى لو أنها حدثت في سياق النزاع المسلح. ولا شك أن واضعي هذه المخططات ومنفذيها كانوا واعين بهذا السياق. علاوة على ذلك، تبدو هذه المخططات واسعة النطاق ومنهجية، ويبدو أنها نُفذت وتنفّذ بشكل تعسّفي، رغم أن واضعيها ومنفذيها لا شك على علم بأن القانون المحلي والدولي يحميان أصحاب هذه العقارات، كما تدلّ على ذلك أساليب القسر والاحتيال التي استُخدمت لاستملاك بعض هذه العقارات (يسلّط القسم التالي المزيد من الضوء على هذه النقطة). أخيراً، يبدو أن عدداً من المسؤولين الإيرانيين متورطون في تنفيذ هذه المخططات، بمن فيهم السفير الإيراني في سوريا، الوسيط الإيراني في حمص المعروف بالحاج فادي، بالإضافة لرجال أعمال وقادة عسكريين إيرانيين ذوي مسؤوليات في سوريا.
ملاحظات ومراجع:
1 النص الكامل للمرسوم رقم 66 موجود هنا.
2 المرجع السابق.
3 انظر هنا.
4 مقال نشر على صفحة الفيسبوك الخاصة بالدكتور زكوان بعاج من مؤتمر أحرار سوريا بتاريخ 5 شباط/فبراير 2015، استناداً إلى معلومات مسربة من داخل مجلس محافظة دمشق. الرابط.
5 انظر هنا.
6 انظر هنا.
7 “مجلس مدينة حمص يناقش المشروع المقترح للمخطط التنظيمي لحي بابا عمرو“، سانا، 30 حزيران 2014.
8 السابق.
9 للمزيد عن القتال في حمص والأهمية الاستراتيجية لهذه المدينة بالنسبة للنظام الإيراني وحزب الله اللبناني، انظر هنا.