2. هدم
إحدى المحاولات القليلة لوضع الخرائط وصور الأقمار الصناعية التي تُظهر الدمار في سوريا في سياقها كان تقريراً أصدرته منظمة “هيومان رايتس ووتش” عام 2014 عنوانه “التسوية بالأرض: عمليات الهدم غير المشروع لأحياء سكنية في سوريا في 2012-2013”.1 يوثّق التقرير سبع حالات هدم واسع النطاق لآلاف الأبنية السكنية في دمشق وحماة خلال سنتي 2012 و2013 من قبل السلطات السورية، باستخدام المتفجرات والجرافات، في انتهاك صريح للقوانين الدولية.2
يستند التقرير، الذي لا يتجاوز 38 صفحة، إلى تحليل مفصل لخمس عشرة صورة من صور الأقمار الصناعية تمت مقارنتها بشهادات من ست عشرة مقابلة مع شهود عيان، بالإضافة لتقارير إعلامية وفيديوهات للدمار وما بعده نُشرت على يوتيوب.
وكان مسؤولون في النظام السوري ووسائل إعلام مؤيدة للنظام قد زعموا وقتها أن عمليات الهدم المذكورة جزء من “مخططات تنظيم عمراني” تخص “مناطق سكنية غير منظمة” (المزيد عن هذا الموضوع أدناه). لكن التقرير يشير إلى أن عمليات الهدم تمت تحت إشراف قوات عسكرية، وغالباً ما تبعت تحارباً بين قوات المعارضة والنظام في المنطقة. بالفعل، جميع الأحياء السبعة التي يركز عليها التقرير كانت تُعتبر – من قبل السلطات ومن قبل شهود العيان الذين قابلتهم “هيومان رايتس ووتش” على حد سواء – “مناطق تسيطر عليها المعارضة.” علاوة على ذلك، لم تحدث أية عمليات هدم مشابهة في المناطق الموالية للنظام، رغم أن العديد منها يعجّ بالأبنية المخالفة وغير النظامية أيضاً.
يلاحظ مقال في صحيفة “وول ستريت جورنال” في تشرين الثاني/نوفمبر 2012 أنه، “بعد عدد من الزيارات المطولة إلى دمشق وما حولها الشهر الماضي – تزامن بعضها مع عمليات هدم نفذتها السلطات العسكرية – يبدو لنا أن التدمير يحصل فقط في المناطق التي ينشط فيها مقاتلو المعارضة.”3 في الحقيقة، يقول عدد من أصحاب البيوت المهدمة الذين قابلتهم “هيومان رايتس ووتش” إنهم كانوا يملكون الوثائق والمستندات المطلوبة التي تثبت قانونية منازلهم، كما أن أياً من الضحايا لم يتلقّ أي إشعار بالهدم، ولم يُستشر أي منهم أو يتلقَ تعويضاً.
لذا يخلص التقرير إلى أن عمليات الهدم هذه كانت انتهاكاً للقانون الدولي لأنها “إما لم تخدم أي هدف عسكري ضروري وجاءت كما يبدو عقاباً متعمداً للسكان المدنيين، أو أنها تسببت في ضرر مفرط للمدنيين” (غير متناسب مع الهدف العسكري المفترض).
تنقسم الحالات التي يعاينها تقرير “هيومان رايتس ووتش” إلى فئتين: “عقابية” و”استباقية”. إذ يبدو أن بعض حالات الهدم لم يخدم أي هدف عسكري ضروري ومحدد، بل كان الهدف الوحيد منها معاقبة السكان المدنيين على أفعال ماضية، وهو ما حدث لأحياء مشاع الأربعين ووادي الجوز في حماة والتضامن والقابون في دمشق. لكن القانون الدولي يقضي بأن المناطق غير المحمية أو التي لم تعد تحمل طابعاً عسكرياً (أي توقف فيها القتال) تعتبر مواقع مدنية لا يجوز استهدافها. كما يحرّم القانون الدولي التدمير العقابي للممتلكات.
أما حالات الهدم التي تندرج تحت الفئة الثانية فيبدو أنها جاءت لاعتبارات عسكرية، أي أنها حدثت في مناطق قريبة من مواقع عسكرية أو استراتيجية سبق لقوات المعارضة أن هاجمتها أو يمكن أن تهاجمها في المستقبل. وتضم هذه الفئة المناطق المحيطة بمطار المزة العسكري ومطار دمشق الدولي ومشفى تشرين العسكري في دمشق. صحيح أن اتخاذ السلطات لبعض الإجراءات الموجهة لحماية هذه المواقع العسكرية أو الاستراتيجية قد يكون مبرراً، لكن التقرير يجادل أن تدمير مئات الأبنية السكنية – على بعد كيلومترات في بعض الحالات – كان مفرطاً ومنتهكاً للقانون الدولي.
يجادل مؤلفو هذا التقرير أن حالات الهدم التي يعاينها تقرير “هيومان رايتس ووتش” وحالات أخرى مشابهة تتصل بالنزاع المسلح في سوريا بشكلين آخرين كذلك، وليس فقط العقاب الجماعي والضرر المفرط.
أولاً، يبدو أن الهدف من استهداف وتدمير مناطق معينة في سوريا لم يكن فقط معاقبة سكان هذه المناطق على مساندتهم للثورة أو للثوار المسلحين، والذين صدف أن معظمهم ينحدر من أصول سنّية؛ بل كذلك لـ “تطهير” تلك المناطق من جميع “العناصر غير المرغوب فيها” ومنعهم من العودة إلى منازلهم في المستقبل. النتيجة هي تغيير الولاءات السياسية والتركيبة الديموغرافية لتلك المناطق. وحمص مثال جيد على ذلك.4
ترسم لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن الجمهورية العربية السورية في تقريرها التاسع،5 الذي صدر في شباط/فبراير 2014، صورة نمطية للأحداث التي غالباً ما سبقت عمليات الهدم والتدمير:
9. بحلول أواخر عام 2012، قامت القوات الحكومية بتغيير أساليبها وأصبح من النادر أن تشن هجمات برية. وبدا أن الباعث على ذلك هو أن الهجمات الأرضية كانت تتيح للمشاة، وأغلبيتهم من المسلمين السُنة، الفرصة للهروب من الجيش، بالإضافة إلى ازدياد فرص الجماعات المسلحة في مهاجمة القوات الحكومية.
10. ومع ذلك، فإن الركائز التي تقوم عليها الهجمات الحكومية على مناطق القلاقل قد ظلت بلا تغيير. وتشمل هذه الركائز: (أ) تطويق المنطقة، بما في ذلك إقامة نقاط تفتيش عند جميع مداخلها؛ و(ب) فرض حصار على المنطقة، بما في ذلك منع تدفق الأغذية والإمدادات الطبية، بل وحتى المياه والكهرباء في بعض الأحيان، إلى المدينة أو المنطقة المعنية؛ و(ج) القصف الجوي والأرضي للمنطقة المحاصرة؛ و(د) القبض على الجرحى الذين يحاولون ترك المناطق المحاصرة بحثاً عن العلاج الطبي الذي لم يعد متاحاً داخل المنطقة، وكذلك على من يحاولون كسر الحصار، وهو ما يجري عادة عن تطريق تهريب الإمدادات الطبية والغذائية إلى المنطقة، بل ويحدث في أحيان كثيرة اختفاء هؤلاء الأشخاص. وكثيراً ما وصف الضحايا الاستراتيجية الحكومية بأنها استراتيجية “تنشيف البحر”، أي تجفيفه من أجل قتل السمك.
[…]13. وارتكز استخدام الحكومة للقصف البري والجوي العشوائي إلى استخدام مجموعة متنوعة من الأسلحة. وبدأت الحكومة الأعمال الحربية باستخدام قذائف المدفعية ومدافع الهاون والصواريخ ضد مناطق القلاقل وأحياناً ضد المناطق المحاصرة. بحلول أواسط عام 2012، جرى توثيق استخدام الذخائر العنقودية والقنابل والقذائف الحرارية، وهي كثيراً ما استُخدمت ضد أهداف مدنية مثل المدارس والمستشفيات، واستخدمت الحكومة أيضاً أسلحة حارقة.
14. وكان أول استخدام للبراميل المتفجرة تحدثت عنه التقارير هو في آب/أغسطس 2012 في مدينة حمص. بيد أن القوات الحكومية لم تبدأ الحملة الشديدة للقصف بالبراميل المتفجرة إلا في أواسط عام 2013 ضد مدينة ومحافظة حلب. […]
ثانياً، يبدو أن الحرب استُخدمت، في بعض هذه المناطق على الأقل، كذريعة أو كغطاء لتنفيذ مخططات مسبقة أو طويلة الأمد للتطهير الطائفي والتغيير الديموغرافي.
ففي غالبية الحالات التي يعاينها تقرير “هيومان رايتس ووتش”، كانت هناك موجة ثانية من عمليات الهدم بعد الموجة الأولى، لا تبررها أعمال الحرب ولا تتصل بالاقتتال. وتظهر صور الأقمار الصناعية في كثير من الحالات أكواماً مرتّبة من الأنقاض، ما يدلّ على تنفيذ عمليات الهدم بشكل “مدروس واحترافي.” والأهم من ذلك، على الأقل في بعض هذه الحالات، هو وجود خطط مسبقة لـ “إعادة إعمار” المنطقة لغايات سياسية، كما ستبيّن الفصول اللاحقة. ومنطقة المزة في دمشق مثال جيد على ذلك.
لتحقيق هذا الهدف المزدوج (أي تطهير مناطق الثوار وتنفيذ مخططات تغيير ديموغرافي طويلة الأمد في تلك المناطق) كان لا بدّ أن تتبع عمليات التدمير والهدم مشاريع “إعادة إعمار”. وستبيّن الفصول التالية كيف تم التخطيط لهذه المشاريع وكيف يتم تنفيذها.
ملاحظات ومراجع:
1 التقرير موجود بالعربية على هذا الرابط.
2 الأحياء التي يعاينها التقرير هي مشاع الأربعين ووادي الجوز في حماة والقابون، التضامن، برزة، المزة وحرّان العواميد في دمشق وريفها.
3 انظر هنا.
4 انظر مثلاً هذا المقال.
5 انظر هنا.