2. تهجير ونقل السكان
لقد تعاملت محاكم دولية عديدة منذ محاكمات نورمبرغ مع التهجير القسري للسكان المدنيين باعتباره جريمة ضد الإنسانية. على سبيل المثال، في قضية “نيكوليتش” عام 1995، حكمت المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة أنه يمكن اعتبار التهجير القسري انتهاكاً جسيماً لاتفاقيات جنيف وجريمة ضد الإنسانية في الوقت نفسه.
جريمة ضد الإنسانية
تعدّد المادة 7 من اتفاقية روما عدداً من الجرائم ضد الإنسانية التي تقع ضمن اختصاص محكمة الجنايات الدولية، ولا سيما حين تُرتكب “في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجّه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين.” وتشمل الجرائم التي تعددها المادة في الفقرة (1)(د) جريمة “تهجير السكان أو نقلهم قسراً.”
يُعرّف “الهجوم الموجّه ضد السكان المدنيين” هنا باعتباره أي “نهج سلوكيّ يتضمن الارتكاب المتكرر للأفعال المشار إليها في الفقرة 1 ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، عملاً بسياسة دولة أو منظمة تقضي بارتكاب هذا الهجوم، أو تعزيزاً لهذه السياسة.”
أما “التهجير أو النقل القسري للسكان” فيُعرّف بأنه “إبعاد الأشخاص المعنيين قسراً من المنطقة التي يتواجدون فيها بصفة مشروعة، بالطرد أو بأي فعل قسري آخر، دون مبررات يسمح بها القانون الدولي.” وعادة ما يتم التمييز بين التهجير والنقل القسري بأن الأول يتعلق بعبور السكان المدنيين قسراً لحدود الدولة إلى دولة أخرى.
حتى تُعتبر جريمة ما جريمةً ضد الإنسانية، يجب أن تكون واسعة النطاق أو منهجية، أي على درجة كافية من الخطورة بحيث تكون موضع اهتمام دولي. لذلك لا تُعتبر أعمال العنف المعزولة أو المتفرقة ضد المدنيين أو الممتلكات المدنية جرائم ضد الإنسانية. ويكفي من أجل ذلك إثبات أحد المعيارين (واسعة النطاق أو منهجية) حتى تُعتبر الجريمة جريمة ضد الإنسانية. لكن في مقابل هذا التعريف الفضفاض، يأتي شرط أن تكون الجريمة جزءاً من سياسة رسمية لموازنة ذلك. بتعبير آخر، يجب أن تكون الجريمة أيضاً جزءاً من سياسة الدولة أو ممارساتها، أو تلك التي تمارسها جهة تتمتع بسلطة أمر واقع في المنطقة أو البلد المعني. أخيراً، يجب أن تكون الجريمة أيضاً مرتبطة بالنزاع المسلح، سواء كان داخلياً أم دولياً. وفي حالة جريمة النقل القسري للسكان، على السكان المعنيين أن يكونوا متواجدين في المنطقة بشكل مشروع قبل عملية النقل.
سبق لمحاكم دولية عديدة أن نظرت في مسألة “التواجد المشروع”. لكن المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة حكمت في قضية “بوبوفيتش” عام 2010 أن
الهدف الأساسي من حظر النقل القسري وتهجير السكان هو الحيلولة دون اقتلاع المدنيين من بيوتهم ولمنع تفتيت الجماعات الأهلية بالجملة. بهذا المعنى، لا يهمّ إن كان شخص ما قد عاش في مكان ما للمدة اللازمة لتحقيق شروط الإقامة أو إذا كان قد مُنح هذه الصفة وفقاً لقوانين الهجرة المحلية. ما يهمّ أن تؤمَّن الحماية لأي شخص انتهى به المطاف إلى “العيش” بين تلك الجماعة الأهلية لأي سبب كان، سواء كان ذلك على المدى الطويل أم بشكل مؤقت. من الواضح أن الهدف من الحماية هو أن تشمل مثلاً النازحين الذين اتخذوا لأنفسهم مساكن مؤقتة بعد اقتلاعهم من موطنهم الأصلي. في رأي المحكمة أن الهدف من شرط التواجد المشروع هو فقط استبعاد الحالات التي يكون فيها الأفراد المعنيون يحتلون البيوت التي يقطنون فيها بشكل غير قانوني أو غير مشروع، وليس لفرض شرط “إقامة” كمعيار قانوني.1
من الجدير بالذكر أن السياسة “لا تحتاج أن تكون رسمية وصريحة، بل يمكن استخلاصها من طريقة حدوث الجرائم،” على حد تعبير المحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة في قضية “تاديتش” عام 1995. كما أقرّت المحكمة أنه “يكفي إثبات أن الجريمة ارتُكبت في سياق الاقتتال أو كجزء منه في منطقة يسيطر عليها ويحتلها أحد الأطراف.”
في قرارها المتعلق بفتح تحقيق دولي عن الوضع في جمهورية كينيا عام 2010، 2 صرّحت الدائرة التمهيدية في محكمة الجنايات الدولية أن سياسة الدولة “لا يجب بالضرورة أن تكون قد أقرّت على أعلى مستويات جهاز الدولة.” إذ يكفي تبنّي السياسة من قبل الممثّلين المحليين أو الإقليميين للدولة، أو لجهة تمارس سلطة أمر واقع على المنطقة، لتحقيق شروط اكتمال تعريف “سياسة دولة”.
أخيراً، تجدر الملاحظة أن لتعبيري “التهجير أو النقل القسري” و”النزوح القسري” المعنى نفسه، وأن كلمة “قسري” لا تقتصر على استخدام القوة الفيزيائية، بل تشمل كذلك “التهديد باستخدام القوة أو القسر، كما في حال الإكراه الذي يسببه الخوف من العنف، الحبس، الاضطهاد النفسي أو سوء استخدام السلطة ضد شخص أو مجموعة أشخاص من قبل شخص آخر، أو استغلال هذا الأخير لبيئة قسرية لمصلحته.”3
جريمة حرب
تحظر المادة 8(ب)(8) من اتفاقية روما جريمة حرب متعلقة بالجريمة ضد الإنسانية آنفة الذكر:
قيام دولة الاحتلال، على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو بعضهم داخل هذه الأرض أو خارجها.
وتظهر هذه الجريمة في اتفاقية جنيف الرابعة فقط (المادة 49) فيما يتعلق بنقل السكان المدنيين إلى أو خارج الأراضي المحتلة. وبالتالي، حتى تنطبق هذه المادة، يجب أولاً إقرار أن الأراضي المعنية خاضعة لاحتلال عسكري وأن السياق الذي حدث فيه نقل السكان هو نزاع مسلح دولي. تنصّ المادة 49 على أن:
يحظر النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه.
ومع ذلك، يجوز لدولة الاحتلال أن تقوم بإخلاء كلي أو جزئي لمنطقة محتلة معينة، إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية. ولا يجوز أن يترتب على عمليات الإخلاء نزوح الأشخاص المحميين إلا في إطار حدود الأراضي المحتلة، ما لم يتعذر ذلك من الناحية المادية. ويجب إعادة السكان المنقولين على هذا النحو إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في هذا القطاع.
وعلى دولة الاحتلال التي تقوم بعمليات النقل أو الإخلاء هذه أن تتحقق إلى أقصى حد ممكن من توفير أماكن الإقامة المناسبة لاستقبال الأشخاص المحميين، ومن أن عمليات النقل تجري في ظروف مُرضية من حيث السلامة والشروط الصحية والأمن والتغذية، ومن حيث عدم تفريق أفراد العائلة الواحدة.
[…]لا يجوز لدولة الاحتلال أن ترحّل أو تنقل جزءاً من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها.
على عكس الجرائم ضد الإنسانية، ليس وجود تخطيط مسبق وسياسة رسمية واتساع نطاق الجريمة أركاناً ضرورية لإثبات جرائم الحرب. لكن من غير المرجح أن تتخطى جريمة مفردة أو معزولة عتبة ثقل أو خطورة الجرائم التي تتطلبها اتفاقية روما، كما سبقت الإشارة. على الجريمة المرتكبة أن تكون “جزءاً من خطة أو سياسة عامة أو جزءاً من عملية ارتكاب واسعة النطاق لهذه الجرائم.”
النزاعات غير الدولية
تتعلق المادة 8(ب)(8) من اتفاقية روما والمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة بالأراضي المحتلة فقط. لكن الفقرة (هـ)(8) من المادة نفسها من اتفاقية روما تدرج، كجريمة حرب، انتهاكاً “خطيراً وممنهجاً” مشابهاً للقوانين والأعراف السارية على النزاعات المسلحة غير ذات الطابع الدولي:
إصدار أوامر بتشريد السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع، ما لم يكن ذلك بداعٍ من أمن المدنيين المعنيين أو لأسباب عسكرية ملحة.
تستند هذه المادة إلى المادة 17 من البروتوكول الإضافي الثاني الملحق باتفاقيات جنيف، الذي يخصّ النزاعات المسلحة غير الدولية:
1- لا يجوز الأمر بترحيل السكان المدنيين، لأسباب تتصل بالنزاع، ما لم يتطلب ذلك أمن الأشخاص المدنيين المعنيين أو لأسباب عسكرية ملحة. وإذا ما اقتضت الظروف إجراء مثل هذا الترحيل، يجب اتخاذ كافة الإجراءات الممكنة لاستقبال السكان المدنيين في ظروف مرضية من حيث المأوى والأوضاع الصحية الوقائية والعلاجية والسلامة والتغذية.
2- لا يجوز إرغام الأفراد المدنيين على النزوح عن أراضيهم لأسباب تتصل بالنزاع.
سنجادل بعد قليل بوجوب التعامل مع الحرب المستمرة في سوريا على أنها نزاع مسلح دولي والتعامل مع المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام على أنها أراض محتلة من قبل النظام الإيراني والميليشيات التي يتحكم بها. لكن حتى دون ذلك، تحظر اتفاقية روما والملحق الإضافي الثاني التهجير والنقل القسري للسكان المدنيين وتعتبران ذلك جريمة حرب.
ملخص
يُعتبر التهجير والنقل القسريّ للسكان المدنيين، سواء كان خلال نزاع مسلح دولي أم غير دولي، جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية في الوقت نفسه، ويمكن تطبيق القوانين المتعلقة بكلتا الجريمتين على الحالة السورية. وقد استعرض الفصل السابق أمثلة عديدة تشير إلى ارتكاب أفعال كهذه مراراً وتكراراً من قبل النظامين السوري والإيراني في مناطق معينة من سوريا.
ملاحظات ومراجع:
1 لمناقشة مفصلة عن هذا الموضوع، انظر مثلاً هذه الورفة.
2 انظر هنا.
3 انظر أركان الجريمة للمادة 7(1)(د).